الجودة في حرف الأنبياء
عقيد دكتور مهندس/ إبراهيم العوضى عقيد دكتور مهندس / مجدى الزلبانى
كبير مراجعي نظم الجودة والبيئة والسلامة وسلامة الغذاء كبير مراجعي ومدربي نظم الجودة والسلامة
لا ينكر أن علم الجودة - كما نعرفه حديثاً - قد تأسس في الغرب بعد الثورة الصناعية وكضرورة مرافقة للتقدم
العلمي الحديث وبني على أساسه مئات بل الآلاف المواصفات التي تؤسس لمفاهيم الإدارة وتحدد المواصفات الفنية
في الأنظمة الحكومية والصناعية والخدمية والتعليمية.
إلا أننا نجد أن هذا العلم هو إمتداد لمفاهيم أصيلة في الدين الإسلامي العظيم.
فمنذ خلق الله آدم وأسكنه وحواء الجنة وقبل أن يعرف الصناعة أو الزراعة كان يسير فتتساقط عليه الثمار فيختار
أفضلها، أى أن حب الجودة غريزة فى الإنسان منذ نشأته قال تعالى " وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا
مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ" 35 البقرة.
وكذلك في قصة ابني آدم حين قام (قابِيل) - وكان صاحبَ زَرعٍ- بتَقريب حفنةٍ من طعامٍ رديءٍ، وقام (هابِيل) وكان
راعي غنمٍ بتَقريب أفضل ما عندَه من الغَنَم، فنَزلت نارٌ من السماء فأكلت قربانَ (هابيل) وتركت قربان (قابيل)
۞ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ
مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) المائدة
ومع التطور بدأت تظهر الصناعات، ومع ظهور الصناعات بدأت تظهر الحاجة إلى جودة هذه الصناعات والحاجة إلى
الموصفات القياسية لها.
وأول مواصفة قياسية فى التاريخ تم وضعها كانت لوحدة القياس بواسطة قدماء المصريين عند بناء الأهرامات
وسميت (Royal Quibid) وبعد إنشاء المصانع أصبح صاحب المصنع هو الصانع وهو المفتش وهو كل شئ
بالنسبة للمواصفات (بالخبرة وبمجرد النظر)، واستمر ذلك حتى القرن الثامن عشر حيث لم يكن هناك قسم للتفتيش.
ومع التطور بدأت تظهر مشاكل عن الجودة (كلها مشاكل تكنولوجية) ومع بداية الحرب العالمية الأولى بدأ يظهر
التفتيش بصورته الكبيرة، ومع استمرار التطور بدأ يظهر قسم مسئول عن التفتيش
(إعتبارا من عام 1920 حتى 1930).
ثم بدأت تظهر العمليات الإحصائية فى مجال الجودة فنشأ ما يسمى مراقبة الجودة الإحصائية Statistical Quality Control
على يد دكتور والتر شيورد عام 1940، وهو أول من وضع خريطة ضبط الجودة Control Chart حيث بدأ
التطبيق الفعلى لمراقبة الجودة بصورة جدية.
ثم وضع جوران Joran العالم الأمريكى الأشهر فى مجال مراقبة الجودة كتابه المعروف Joran، وهو كتاب شامل
لكل ما يختص بالجودة وتلقفته اليابان وبدأت فى تطبيق كل ما به بكل دقة وصرامة إعتباراً من أوائل الستينات حتى
تخطت (فى مجال الجودة) أصحاب الشأن أنفسهم (وهم الأمريكان) .
والأساس الأول للجودة هو المنافسة (Competition) فلولاها لانعدمت الجودة حيث إن وجود أكثر من بديل أمام
المستهلك يجعله يفاضل بين هذه البدائل وتفضيل أكثرها جودة، وهذا ما يدفع المتنافسين جميعا لبذل الجهد للوصول
إلى مستوى جودة أفضل (وفى ذلك فليتنافس المتنافسون) .
والذى نود أن ننوه إليه هو أن الجودة ليست ترفاً ولا إحدى الكماليات، وإنما هى ضرورة من الضروريات اللازمة
لأى مجتمع يرجو الحياة الكريمة، بل لا نغالى أن نقول إنها واجب دينى يأمرنا به الدين الحنيف .
يقول سبحانه: "صنع الله الذى أتقن كل شىء إنه خبير بما تفعلون" (88 النمل)، ويقول أيضا : "الذى أحسن كل شىء خَلَقَهُ وبدأ خلق الإنسان من طين" (7 السجدة).
ويقول عليه السلام : "إن الله يحب إذا عمل أحدُكم عملاً أن يتقنه".
ومما يؤسف له أن الأمم التى لا يؤمن معظمها بالأديان أو بأديان لا يوجد فيها هذه النصوص القطعية الدالة على
الاهتمام بالجودة قد فاقتنا بمراحل كبيرة فى مجال الجودة وعلى رأسها اليابان وكوريا والصين والولايات المتحدة
ودول أروربا الغربية، لأنهم طبقوا العلوم التجريبية أخذاً بالجوهر، أما نحن فقد وقفنا عند المظاهر دون تعمق فى
جوهر الدين وعلومه التى تأمرنا بإتقان العمل كواجب دينى.
ودعونا نتساءل ما الذى يجعل شعوب العالم أجمع (بما فيها الشعب الأمريكى نفسه) يتهافت على المنتجات اليابانية
فى حين لا تلقى نفس المنتجات التى تشبهها لحد كبير والمنتجة فى بلاد أخرى مثل تايوان – هونج كونج – كوريا
......... إلخ، مثلا نفس الدرجة من القبول ؟
والإجابة واضحة بالطبع، فالسر فى ذلك هى تلك الكلمة الساحرة : الجودة.
وما بين أيدينا دراسة لبيان كيف كان أنبياء الله عليهم السلام تحيطهم الجودة من كل جانب: في صناعاتهم وحرفتهم
وأعمالهم بتأييد من المولى عز وجل.
التعريفات:
الإتقان هو ما نسميه اليوم الجودة.
ولو تناولنا سيرة كل نبي على حده وقصة إتقانه لعمله لاستغرق النبي الواحد مساحة المقال كله وزيادة، لذلك
سنكتفي بالآيات والعبارات التي تؤدي المعنى المطلوب فقط قدر المستطاع.
1. سيدنا نوح عليه السلام:
كان يصنع السفينة بإتقان تام: "واصنع الفلك بأعيننا ووحينا"- هود (37)، أي برقابة إلهية وتوجيه من روح القدس
جبريل عليه السلام، مما جعل السفينة (التي كانت تحمل نبي الله نوحاً ومن آمن معه ومن كل زوحين اثنين من جميع
المخلوقات على وجه الأرض) تسير وسط موج كالجبال دون أن يدخلها قطرة ماء واحدة لتؤدى دورها على أكمل
وجه في نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين.
ولشدة إتقان وجودة هذا الصنع العظيم خلده الله سبحانه في كتابه العزيز في قوله: "ولقد تركناها آية فهل من
مدكر"- القمر (15)، حيث إكتشفوا آثارها حالياً على جبل أرارات (الجودي) في تركيا وهو الجبل الذي رست عليه
السفينة، " وقضي الأمر واستوت على الجودي" هود (44).
2. سيدنا إدريس عليه السلام:
رغم أنه لم يذكر كثيراً في القرآن الكريم إلا أن الآثار تقول إنه كان يعمل خياطاً فكانت كل "غرزة" له بتسبيحه لله عز
وجل، سبحان الله، أي إتقان بعد ذلك؟. وقد خلد الله ذكره في كتابه العزيز بقوله: "واذكر في الكتاب إدريس إنه كان
صديقاً نبياً. ورفعناه مكاناً علياً- مريم (56 ، 57).
3. سيدنا إبراهيم عليه السلام:
قال في حقه ربنا سبحانه وتعالى "وإبراهيم الذي وفى"، حيث كان يؤدى ما يطلب منه بكل حب وتفان وإخلاص
وأبرز مثال على ذلك هو عندما أمره سبحانه ببناء البيت الحرام، طلب من ابنه إسماعيل عليه السلام أن يساعده،
فكان الإبن يأتي إليه بالحجارة من الجبل ويقوم الأب بالبناء، حتى إذا ما أتم بناء ما تصل إليه يده (وكان يمكنه أن
يكتفي بذلك كما قال شيخنا الشعراوي رحمه الله) إلا أنه، وإتقاناً منه لعمله، أحضر حجراً ووقف عليه فثبت الله
رجليه بأن غاصت قدماه في الحجر، وعمل هذا الحجر عمل السقالة حيث كان يدور بسيدنا إبراهيم حول الكعبة ثم
يرتفع مع كل دورة بناء إلى أن أتم البناء على أكمل وجه.
وقد خلد الله سبحانه هذا الموقف لخليله إبراهيم بأن بقي هذا الحجر حتى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن
عليها وهو (مقام إبراهيم) والذي يراه كل معتمر وحاج – "فيه آيات بينات مقام إبراهيم"- آل عمران (97).
4. سيدنا يوسف عليه السلام:
تعرض لمحن عظيمة معظمنا يعرفها، فما زاده ذلك إلا اليقين بربه ليكون معه في جميع المواقف الصعبة كما يلي:
أ. إتهم بالسرقة في بداية حياته لمجرد أن عمته أحبته وأرادت أن تبقيه معها.
ب. حسده إخوته لأن أباه أحبه لما رأى فيه من علامات النبوة المبكرة فما كان منهم إلا أن كادوا له كيداً وألقوه
في غيابة الجب وادعوا كذباً أن الذئب قد أكله.
ج. إلتقطه بعض السيارة وباعوه عبداً لأحد المسافرين من مصر.
د. أحبته امرأة العزيز لشدة جماله وراودته عن نفسه، بل واستضافت النسوة من كبار القوم في المدينة فاستعصم
وسأل اللهَ السجن بعيداً عن كيدهن.
ه. دخل السجن ظلماً وبهتاناً لمجرد أنه امتنع عن مجاراتهن ولجأ إلى الله سبحانه ليكون نصيره على كيد نسوة
المدينة.
و. رغم أنه قام بتأويل رؤيا صاحبيه في السجن، فقد نسيه ساقي الملك فلم يذكره مرة واحدة أمام الملك، فلبث في
السجن بضع سنين. ثم يأتي الفرج برؤيا الملك حيث قام بتأويلها بكل أمانة وإتقان ثم تولى شئون (خزائن الأرض)
فأدارها بكل حكمة وعلم واقتدار حيث عبر بالأمة كلها هذه الأزمة فأنقذ مصر"والمنطقة كلها" من القحط والمجاعة،
إلى أن التقى بإخوته ووالديه، وقال دعاءه الجميل: "رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر
السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين"- يوسف (101).
5. سيدنا موسى عليه السلام:
هذا الكليم موسى عليه السلام وقبل الرسالة عندما توجه تلقاء مدين وورد ماء مدين، "وجد عليه أمة من الناس
يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان، قال ماخطبكما قالتا لا نسقي حتى يُصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير"-
القصص (23)، فما كان منه إلا أن دفعته شهامته أن يسقي لهما: كيف ذلك؟.
تناول الحجر الذي يغطي عين الماء (ويحتاج إلى إثني عشر رجلاً لرفعه) فتناوله بمفرده ورفعه فتركه القوم يسقي
قبلهم جميعاً، ثم تولى إلى الظل فقال دعاءه الطيب: رب ني لما أنزلت إلي من خير فقير- القصص (24).
عادت البنتان إلى أبيهما قبل الموعد المتوقع وعرف منهما القصة فأرسل في استدعائه: "فجاءته إحداهما تمشي
على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ماسقيت لنا، فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من
القوم الظالمين" – القصص (25). على الفور: "قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي
الأمين"– القصص (26).
6. سيدنا داوود – وسليمان عليهما السلام:
كان نبي الله داوود يعمل ويأكل من عمل يده كما قال خاتم الأنبياء عليه السلام. وكان سيدنا سليمان (وهو ابن سيدنا
داوود عليهما السلام) يقول: "رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه
وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين"- النمل (19).
علماً بأنهما كانا نبيين ملكين، فقد علم الله سبحانه وتعالى نبيه داوود صناعة الدروع التي تقي الإنسان أثناء الحرب:
"وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون"- الأنبياء (80)، فكان يصنعها بكل إتقان ويبيعها
ليأكل من ثمنها. "ولقد آتينا داوود منا فضلاً ياجبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد. أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير" - سبأ (10 ، 11).
وعبارة: " وقدر في السرد" كما فسرها مولانا الشيخ الشعراوي رحمه الله هي أمر له عليه السلام بالإتقان الزائد.
وقد سخر الله سبحانه لسيدنا سليمان الريح والجن والطير فكانت الريح: "غدوها شهر ورواحها شهر".
وكان الجن: "يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات"- سبأ (13)، أي إتقان بعد
هذا الإتقان؟
7. سيدنا محمد عليه السلام:
خاتم الأنبياء بل خير خلق الله أجمعين، وهو الذي أمر أصحابه والمؤمنين به إلى يوم القيامة بإتقان العمل (جودته)
بالحديث الذي أوردناه في مقدمة هذه الدراسة، سيرته تحتاج لمجلدات ولكننا نذكر الآتي:
أ. قبل بعثته عليه السلام كان يعمل برعي الغنم فكانت الأمانة المعروفة عنه لدرجة شهرته بها فكان لقبه
(الصادق الأمين) علماً بأن الأمانة جزء لا يتجزأ من الجودة.
ب. بعد ذلك عمل بالتجارة في مال السيدة خديجة رضوان الله عليه فكانت أمانته سبباً في الربح الحلال الوفير الذي
دفع السيدة خديجة ا للزواج منه رغم رفضها لأشراف مكة من قبل.
ج. حفظ أهل مكة لأماناتهم لديه رغم كفرهم به وعداوتهم له، بل إنه صلى الله عليه وسلم أمر علياً كرم الله وجهه
ليلة الهجرة بالبيات على فراشه لأداء الأمانات إلى أهلها.
د. موقفه من أسرى بدر من المشركين (الفقراء) عندما طلب من كل منهم تعليم (10) من المسلمين الأميين من
صحابته الكرام القراءة والكتابة مقابل إطلاق سراحهم بدلاً من الفدية بالمال لعدم تمكنهم من تدبيره.
ه. القصة المعروفة عندما صنع بيده الشريفة فأساً للرجل الذي جاءه سائلاً وقال له: إذهب واحتطب وبع، ولا
أَرَينك خمسة عشر يوماً، فجاءه الرجل بعد هذه المدة وقد أصاب عشرة دراهم أطعم ببعضها أهله.
ولنا أن نتساءل كيف كانت جودة هذه الفأس؟
و. فترة حفر الخندق حيث كان يعمل فيه مع أصحابه بنفسه بل قام بتكسير الصخرة التي استعصت عليهم وبشرهم
ساعتها بالفتوحات التي تمت في عهد الخلفاء الراشدين بعد ذلك، تخيلوا مدى جودة ودقة هذا الخندق الذي حمى
المدينة المنورة ومنع الأعداء القادمين من كافة أنحاء الجزيرة العربية على اقتحامه.
الأمثلة أكثر من أن تحصى وكلها تحمل في طيها الدقة والإتقان، صلى الله عليه وسلم.
في النهاية فإن وظيفة كل نبي هي ما سجله القرآن الكريم دعوة قومه إلى الله: "ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله
غيره"، وهي أسمى وأشرف دعوة عرفتها البشرية على مر العصور، ولاشك أنها إذا تحققت ستقودنا إلى إتقان كل
شيء، ومن ثَم السعادة في الدارين ، جعلنا الله من السعداء في الدنيا والآخرة.