عوامل النجاح في تطبيق المواصفات العالمية
حالة عملية - بنك الاتحاد الوطني
الخبير الدولى د علاء جراد
خلال مساري الوظيفي كمتخصص في الجودة والتميز المؤسسي مررت بعدة محطات عملت خلالها كضابط جودة ومساعد مدير ثم مدير جودة كما عملت بالتوازي كمقيم ورئيس فريق تقييم ثم كمحكم في جوائز الجودة وعملت مع عدة جوائز مثل جائزة دبي للجودة وجائزة الجودة الحكومية في إمارة رأس الخيمة وكذلك جائزة الملك عبدالعزيز بالسعودية خلال هذه الرحلة تعاملت مع أكثر من 500 مؤسسة في مختلف القطاعات وبمختلف الأحجام، عندما أتذكر التطبيق العملي للجودة يخطر ببالي بل محفوراً بذهني بعض المؤسسات التي لا يزيد عددها عن أصابع اليد من حيث مدى تطبيق الجودة وفعالية الالتزام بالمعايير، واخترت لكم من بين تلك المؤسسات بنك الاتحاد الوطني والذي كان مقره مدينة أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة والذي تم اندماجه مؤخراً مع بنك آخر.
سأتناول فقط المنظومة الإدارية وليس المعايير والمنظومة البنكية الفنية كالوسائل النقدية أو المنتجات والسياسات البنكية، اتحدث هنا عن نظام إدارة الجودة بالبنك، وقد شغلت فيه منصب مدير الجودة وعملت لمدة ثلاثة سنوات من 2003 وحتى عام 2006. استثمر بنك الاتحاد الوطني في بناء منظومة متكاملة للجودة والتميز المؤسسي بالاعتماد على مجموعة من المعايير والسياسات أهمها مواصفة الأيزو 9001، والنموذج الأوروبي للتميز، والمعيار الدولي لخدمة العملاء ومواصفة الأيزو 10002 لإدارة رضا وشكاوى العملاء، كما تبنى سياسة المقارنات المعيارية والتي كان لها منهجية موثقة ومطبقة، بالإضافة لمنهجيات أخرى في غاية الأهمية مثل منهجية قياس رضا العملاء الداخليين Internal Customer Satisfaction Survey ومنهجية اتفاقيات الخدمة Service Level Agreements ومنهجية المتسوق السري Mystery Shopping وتم تدعيم ذلك بجائزة داخلية لأفضل فرع في مستوى الخدمة. لقد نجح البنك نجاح منقطع النظير في تحقيق رسالته وهي أن يكون البنك الأول في الجودة وفي تقديم الخدمة على مستوى الدولة.
كيفية تطبيق بعض المواصفات :
سأبدأ بمواصفات الأيزو 9001 و 10002 كمنظومة إدارية ، حيث تبنى البنك بقيادة الأستاذ محمد نصر عابدين الرئيس التنفيذي للبنك في ذلك الوقت، هذه المواصفات من منظور أنها خلاصة الممارسات الإدارية الناضجة وأنه ما لا يمكن قياسه لا يمكن تحسينه أو إدارته وبالتالي تم تخصيص الميزانية اللازمة لتفعيل المواصفة والتعاقد مع واحدة من أفضل المؤسسات المانحة وهي "لويدز" للقيام بعمليات التدقيق والتدريب والتقييم. تم تضمين كافة المواصفات والنماذج المتبناة في البنك ضمن المادة التدريبية للموظفين الجدد وبالتالي من اليوم الأول يعي الموظف جيداً ماذا تعني هذه الأنظمة وما الذي يتعين عمله حتى يستوفي المتطلبات في نطاق عمله. كانت كافة اجتماعات "مراجعة الإدارة " الخاصة بمواصفة الأيزو تتم بحضور الرئيس التنفيذي شخصيا، وكذلك رؤساء المجموعات. ولم يكن الحضور وتيني ولكن بمشاركة فعلية وتفصيلية بل أن بعض شكاوى العملاء كان يتعامل معها بنفسه. كانت تقارير الجودة تذهب إليه مباشرة ويقوم بمراجعتها في نفس اليوم لذلك كانت للجودة "هيبة" كما نقول بالعامية. تم تدريب أكثر من 40 مدقق داخلي للقيام بعمليات التدقيق في كافة عمليات البنك والجدير بالذكر أن البنك كان من أول المؤسسات ربما عالمياً التي تبنت مفهوم التدقيق المبني على العمليات وليس على الإدارات .
مثال آخر للتطبيق وهو منظومة التميز في الخدمة، حيث تم التعاقد مع مؤسسة مستقلة للقيام بعمليات التسوق السري وهو مفهوم يعتمد على إرسال أشخاص للتعامل العادي في فروع البنك كصرف شيك أو إيداع نقدي أو فتح حساب وخلال ذلك يقوم العميل "السري" بتقييم الخدمة بناء على معايير تم وضعها من قبل إدارة الجود الشاملة وتم استقاء تلك المعايير من شركات عالمية تتميز بجودة الخدمة مثل فنادق الريتز كارلتون وفنادق مجموعة جميرا، وهنا كان للمقارنات المعيارية دورا جوهريا في التعلم المؤسسي والارتقاء بمستوى الخدمة، وبجانب المتسوق السري كانت تقارير الأداء الشهري والربع سنوي بجانب تقارير التدقيق والالتزام بمنظومة خدمة اتفاقيات الخدمة هي المدخلات لجائزة أفضل فرع. كما هو موضح بالشكل التالي .
عوامل النجاح الرئيسة لمنظومة الجودة والتميز:
أنظر الآن للوراء أكثر من 15 عاماً وبعين الأكاديمي والمتخصص في مجال الجودة والتعلم المؤسسي لأستخلص الدروس المستفادة والتي تضمن النجاح والتميز لأجد عدد كبير من الدروس المستفادة وسأنتقي منها خمسة دروس كما يلي :
1- القيادة المتعلمة :
لقد كان الأستاذ محمد نصر عابدين بمثابة الموجه والمعلم وفي نفس الوقت خبير الإدارة المطلع على كل جديد في الإدارة وليس فقط في المجال المصرفي، لذلك ليس غريباً حصوله على عشرات من جوائز التميز والقيادة على مستوى الشرق الأوسط والعالم . وأذكر أنني سمعت لأول مرة في حياتي مصطلح " الذكرة المؤسسية " منه خلال احد الاجتماعات. وأذكر أنني بعد أن تركت البنك بخمس سنوات وحصلت على درجة الدكتوراه أرسلت له نسخة من رسالة الدكتوراه وإذ بي أتلقى مكالمة منه بعد شهرين يعتذر لتأخره في التواصل معي لأنه لم يرد التواصل الا بعد أن قرأ الرسالة كاملة ووجه بعمل نسخ منها لمكتبة البنك. لقد تعلمت منه الكثير عملياً وأخلاقياً.
2- العمل كفريق :
تتحدث كل الأدبيات عن أهمية الفريق ولكن في البنك لم يكن الموضوع حديثاً ولكن فعلا، حيث كان يتم تدريب كل من لديه مهام إشرافيه على أساليب القيادة وإدارة البشر. كما كان البنك يولي عناية كبيرة بالجانب النفسي والإنساني، فمثلا قبل أن نبدأ في مشروع جديد يتم تشكيل الفريق بناء على معايير محددة وبالتشاور ثم يتم تخصيص وقت لتعارف الفريق فمثلا في إحدى المرات كان عدد الفريق 22 عضو وتم تخصيص يوم ترفيهي لتعارف أعضاء الفريق وقضينا ذلك في إحدى جزر أبوظبي وتم دعوة أسرة كل عضو بالفريق للمشاركة في هذا اليوم الترفيهي.
3- وجود نظام إدارة وتقييم أداء فعال :
لم يكن تطبيق منظومة الجودة مجرد شعارات أو " تستيف ورق " ولكن كان هناك نظام فعال لإدارة وتقييم الأداء بحيث تقف الإدارة على مستوى الأداء الإسبوعي وتتدخل عند الحاجة ويتم التقييم العادل والموضوعي وباتفاق الرئيس والمرؤوس، وارتبط نظام التقييم بالحوافر والترقيات، كما تنوعت أساليب التقدير والمكافأة بحيث تكون رأسية وأفقية بمعنى أنه يمكن أن تجد على مكتبك في الصباح رسالة شكر من الرئيس التنفيذي ومعها هدية أو مكافأة مالية لأنك قمت بعمل تخطى مهام وظيفتك وطبقت فيه قيم البنك ورسالته، وقد أخبر احد زملائك عن هذا التصرف وتم التحقق منه من خلال آلية معينة وبالتالي فتستحق التقدير، وبالتالي كان الجميع منهمك في العمل، 110% كان موجهأ للعمل المخلص لأن لا أحد بحاجة لإظهار أو " تلميع " نفسه أو إثبات أنه هو من قام بالعمل.
4- وضوح الرؤية والرسالة والقيم المؤسسية :
كانت الإدارة تستثمر وبكرم في رفع وعي الموظفين والاهتمام بتثقيفهم وإشراكهم في اتخاذ القرار بل وصياغة وتنقيح القيم المؤسسية والأهداف وكان من الطبيعي أن تسأل أي موظف من ال 1600 موظف في ذلك الوقت عن رسالة البنك او اي واحدة من القيم المؤسسية ليجيبك فورا مع ذكر أمثلة على تطبيق تلك القيم. كما كان ذلك مدعوما بوضوح أهداف ومؤشرات الأداء وكيفية ارتباطها بتلك القيم والرسالة والأهداف. وأثناء التقييم النصف سنوي والسنوي كان كل موظف مطالب بذكر مثالين قام بتطبيقهم لكل قيمة من القيم المؤسسية.
5- الاستثمار في البشر :
كان بنك الاتحاد الوطني من أكثر المؤسسات التي عملت بها إهتماماً وجدية في الاستثمار في التدريب والتعلم كان لدى الجميع الفرصة لحضور دورات تدريبية داخل وخارج البنك بل وحضور مؤتمرات وندوات، وكان التعلم والنمو أحد المحاور الأربعة في نظام بطاقة الأداء المتوازن المستخدمة في البنك وبالتالي لم يكن التعلم مجرد اختيار بل لابد أن تتعلم لأنك ستسال خلال التقييم السنوي ماذا تعلمت خلال السنة الماضية.
لقد كان البنك وبحق مؤسسة مدفوعة بالتعلم وينطبق عليه تعريف المؤسسات المدفوعة بالتعلم وهي تلك المؤسسة التي لا يمكنك عدم التعلم فيها لأن كل نشاط وكل فعالية ترتبط وتشجع على التعلم.